15 أكتوبر 2025
د. آمنة مهنا الكعبي تكتب: الاستماع لغة تفوق الكلام والحوار البنّاء صوت العقل وروح القلب

استكمالاً للمقال السابق التواصل الفعال لغة القلوب قبل الألسنة، أسمحوا لي أن أكمل اليوم أن يكون مقالي عن مهارة الاستماع ومهارة الحوار البنَاء بعتبارهما ضلعين اساسين في مثلث التواصل الفعال.

فإذا كان التواصل الفعّال هو لغة القلوب قبل الألسنة، فإنّ الاستماع هو بوابته الكبرى، وجوهره الأعمق، فالكلمات وحدها لا تبني جسور التفاهم ما لم تجد أذنًا واعية وقلبًا منصتًا، وهنا تتجلّى مهارة الاستماع الفعّال باعتبارها إحدى أهم أدوات التواصل الإنساني، تلك المهارة التي لا تقتصر على سماع الأصوات، بل تمتد إلى التقاط المعاني المخفية بين السطور، وملاحظة نبرات الصوت وإيماءات الجسد، وفهم ما لم يُقال بقدر ما قيل.

الاستماع الفعّال يختلف جذريًا عن مجرد السماع العابر، فالسماع هو استقبال الأصوات بشكل عفوي، أما الإنصات فهو تركيز ذهني قصير على ما يقال، بينما الإصغاء هو أرقى درجات الاستماع؛ حيث ينخرط المستمع بكامل حواسه ومشاعره، مانحاً المتحدث إحساساً عميقاً بالاهتمام والتقدير.

وتبرز أهمية هذه المهارة في ارتباطها الوثيق بالتواصل البنّاء، فالمستمع الجيد لا يكتفي بفهم الرسالة، بل يمنح المتحدث شعوراً بالثقة والأمان، مما يفتح المجال أمام حوار صادق، ويخفف من حدة الخلافات، ويعمّق جسور التفاهم في بيئات العمل، وفي الأوساط الدراسية، وبين أفراد الأسرة و كذلك بين الأصدقاء.

أمّا غياب مهارة الاستماع الفعّال، فيترك أثره السلبي واضحًا: في محيط الدراسة يخلق فجوة بين الطالب ومعلمه، وفي العمل يعرقل التعاون ويضعف الإنتاجية، وفي الأسرة والأصدقاء يولّد سوء فهم قد يتحول إلى جفاء وبرود عاطفي، فالكلمة التي لا تجد من يصغي إليها، سرعان ما تتحول إلى صمت مثقل بالخذلان.

باختصار، مهارة الاستماع ليست مجرّد عادة أو خُلق حسن، بل هي فنّ حياتي يُثري عقولنا، ويهذّب قلوبنا، ويجعلنا أكثر قدرة على بناء علاقات متينة، قائمة على الفهم المتبادل والاحترام العميق، فهي الجسر الذي يحوّل التواصل من تبادل للألفاظ إلى لقاء حقيقي بين الأرواح.


الحوار البنّاء: صوت العقل وروح القلب
إذا كان التواصل الفعّال لغة القلوب، وكان الاستماع جسراً للفهم، فإنّ الحوار البنّاء هو الثمرة التي تنضج من التقاء الطرفين؛ إنه فن التعبير عن الذات بوضوح، مع احترام الآخر وإفساح المجال لرأيه، فالحوار البنّاء لا يقوم على صخب الكلمات ولا على فرض المواقف، بل على التقاء العقول في ساحة من الاحترام المتبادل والنية الصافية.

مهارة التعبير والحوار البنّاء تبدأ من القدرة على صياغة الأفكار بوضوح، بعيداً عن الغموض أو الانفعال المفرط، فالتعبير الجيد ليس في كثرة الكلام، بل في دقته وعمقه، وفي اختيار الكلمات التي تفتح القلوب بدلاً من أن تغلقها. هنا يصبح الحوار طريقاً للتقارب لا ساحةً للجدال.

أهميّة هذه المهارة تتجلّى في كل ميدان من ميادين حياتنا. 
في بيئة العمل ترفع من مستوى التعاون، وتقلّل من حدة النزاعات، وتوجّه الطاقات نحو إنجاز مشترك.
في الدراسة تتيح للطالب عرض أفكاره بلا خوف، وتمنحه فرصة لتبادل المعرفة بوعي ناضج.
في الأسرة تعمّق الروابط بين الآباء والأبناء، وتمنح الزوجين مساحة آمنة لتفاهم مستمر.
في المجتمع تزرع ثقافة الاحترام المتبادل وتدعم أسس الحوار الحضاري الذي يثري التنوع ويقوّي اللحمة الاجتماعية.

ومعوقات الحوار البنّاء كثيرة، تبدأ بالتسرع في إصدار الأحكام، أو الانشغال بالدفاع عن الرأي بدلاً من محاولة فهم الآخر، مرورًا بضعف مهارة الإصغاء، وصولاً إلى غياب الاحترام أو سيطرة الانفعال، وكلما غابت هذه المهارة، ازدادت المسافات بين البشر، حتى وإن اجتمعوا في مكان واحد.

في جوهر الأمر، الحوار البنّاء هو توازن بين التعبير والإصغاء، بين أن تقول ما في داخلك بصدق، وأن تمنح الآخر فرصة ليقول هو أيضاً ما يريد، وبهذا يصبح الحوار رحلة مشتركة، لا سباقاً لإثبات من على حق.

وباختصار، فإنّ التواصل الفعّال لا يكتمل إلا باستماع عميق وحوار ناضج، فالكلمة الصادقة حين تجد أذناً منصتة وقلباً متفهماً، تتحول من مجرد صوت عابر إلى قوة قادرة على بناء الثقة، وتعزيز التفاهم، وصناعة علاقات أكثر إنسانية وعمقًا. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكترونى

كل التعليقات

طلبات الخدمات
تواصل معنا
جميع الحقوق محفوظة لصالح سعادة نيوز© 2025
Powered by Saadaah Enterprises FZ LLE