في أحد الاجتماعات الوظيفية، ارتكب أحد الموظفين خطأ صغيرًا أثناء حديثه أمام الفريق، وكان من السهل على المدير أن يوقفه ويصححه على الفور، لكنه لم يبدي أي رد فعل، وتركه يكمل حديثه دون تعليق.
بعد الاجتماع، سأله أحد الزملاء: "لماذا لم تصحح خطأه؟" فأجاب المدير: هي هفوة بسيطة لا تستحق أن أصححها ولو قاطعته أمام الجميع لفقد ثقته بنفسه، أما الآن فسيعود بنفسه ليتدارك الخطأ في المرة القادمة.
هذا الموقف يلخص لنا فنًا عظيمًا لا يتقنه إلا الحكماء: فن التغافل، فهو ليس ضعفًا ولا عجزًا عن الرد، بل هو ذكاء قلبي ورقيّ إنساني يضبط العلاقات ويحفظ المودة ويزرع الطمأنينة.
يقول السلف: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"، وقال معاوية رضي الله عنه: "أحبّ للسيد أن يكون عاقلًا متغافلًا"، وهذه الأقوال تختصر لنا قيمة هذا الفن في بناء النفوس والعلاقات.
ما هو فن التغافل؟
التغافل هو القدرة على تجاوز الهفوات الصغيرة والأخطاء العابرة، وعدم الوقوف عند كل زلة أو تصحيح كل كلمة، إنه مهارة راقية تعني أن نرى الخطأ لكن نختار التغاضي عنه، حفاظًا على المودة واستقرار الروح، بدلًا من إشعال الخلافات على تفاصيل لا تستحق.
أهمية التغافل
الحياة مليئة بالمواقف التي قد تستفزنا أو تضايقنا، ولو توقفنا عند كل هفوة لضاعت أعمارنا في الجدال والخصام.
التغافل يمنحنا راحة داخلية وسلامًا نفسيًا وعلاقات متينة خالية من التوتر المستمر، إضافة إلى أنه يمنحنا مكانة اجتماعية راقية، إذا يرى الناس في التغافل حلمًا وكرمًا.
متى يجب أن نتغافل؟
التغافل ليس تنازلًا عن الحق أو السكوت عن ظلم كبير، بل هو في الأمور البسيطة التي لا يترتب عليها فساد أو ضياع حق، نتغافل عن كلمة عابرة قيلت في غضب، أو خطأ غير مقصود، أو سلوك عارض قد يزول بمجرد التجاهل. أما إن كان الخطأ متكررًا ومؤذيًا، فالنصح والبيان يكونان واجبين.
القائد الحقيقي وفن التغافل
الموقف الذي حدث في الاجتماع خير مثال على أن القائد الحقيقي ـ في أي مجال أو علاقة ـ هو من يجيد فن التغافل وتجاهل الزلات وكأنه لم يرها، لكنه في الوقت نفسه يعرف متى يتغافل ومتى لا يتغافل.
فالتغافل عن خطأ صغير قد يحفظ كرامة الموظف ويزيد من ثقته بنفسه، بينما التدخل الحازم عند خطأ كبير متكرر قد يحفظ المؤسسة بأكملها من الخسارة، وهكذا يجمع القائد الحكيم بين الرحمة والصرامة، وبين الحكمة والعدل، ليكون قدوة لمن حوله.
تأثير التغافل على العلاقات
إجادة استخدام فن التغافل ليس مقصورًا على علاقة العمل بل هو فن يجب إتقانه واستخدامه في كل العلاقات الإنسانية.
في الأسرة: الزوجان اللذان يتغافلان عن هفوات بعضهما يعيشان حياة أكثر استقرارًا وسعادة، ويتجنبان تراكم الخلافات الصغيرة، والأبوان حين يتغافلان عن بعض تصرفات الأبناء البسيطة، يفتحان مجالًا للحوار بدلًا من كثرة اللوم.
في الصداقة: الصداقة الحقيقية تقوم على التسامح، والتغافل هو الذي يحفظها من الانكسار عند كل كلمة أو تصرف غير مقصود.
في بيئة العمل: الزميل المتغافل يحفظ روح الفريق ويجنب نفسه وجماعته جو التوتر، والمسؤول الحكيم حين يتغافل عن أخطاء طفيفة لموظفيه، يزرع فيهم احساس الأمان و الولاء والدافعية بدلًا من الخوف والتذمر.
باختصار ومن تجارب شخصية، التغافل مهارة من مهارات القيادة وهو فن يحتاج إلى قلب كبير وعقل متزن، وهو سرّ من أسرار السعادة في التعامل مع الناس، ليس كل ما يُرى يُعلَّق عليه، ولا كل خطأ يُصحَّح، أحيانًا يكون التغافل أبلغ من ألف كلمة، وأعمق أثرًا من أي نصيحة.