7 ديسمبر 2025
د. آمنة مهنا الكعبي تكتب: النزاهة والمساءلة 

في عالمٍ يموج بالتحديات ويتدافع فيه البشر بين المصالح والرغبات، تظلّ النزاهة والمساءلة كالضوء الذي لا يبهت، كالبوصلة التي تحفظ الاتجاه مهما اختلطت الطرق وتشابكت المسارات، فهما ليستا مجرد قيم أخلاقية تُدرَّس، بل روح تتنفس داخل الإنسان، وتنعكس على قراراته، وعلى أثره في الآخرين، وعلى الطريق الذي يختاره في هذه الحياة.

النزاهة، في معناها العميق، هي أن يظلّ الإنسان وفيًّا لنفسه قبل أن يكون وفيًّا للآخرين، صادقًا في نيته، نقيًّا في سلوكه، ثابتًا في مواقفه، يمارس ما يؤمن به، ويقول ما يتوافق مع ما يفعله. هي ذلك الاتساق الداخلي الذي يجعل الإنسان يشعر بأن قلبه وضميره وعمله يسيرون في خطٍ واحد لا ينحرف. 

أمّا المساءلة فهي الوجه الآخر لهذه القيمة؛ هي الشجاعة في الاعتراف، والقدرة على تحمل النتائج، والاقتناع بأن كل قرار يترك أثرًا، وأن الإنسان — أيًّا كان موقعه — مسؤول عمّا يفعله ويقوله وما يتسبب به، المساءلة ليست عقوبة، بل وعيٌ متقدم بأن الحياة لا تمنحنا الصلاحيات إلا لتختبر قدرتنا على تحملها.

وتتحقق النزاهة حين يُربّي الإنسان داخله رقابة ذاتية قوية، حين لا يحتاج إلى من يراقبه ولا إلى قانون يطالبه، بل حين يكون القانون في داخله، ينهض كلما حاولت شهوات النفس أن تُعمي البصيرة. 

وتتحقق المساءلة حين يكون هناك نظام عادل يضع المعايير بوضوح، وحين يتبنى الإنسان ثقافة الاعتراف والتصحيح، لا ثقافة التبرير والإلقاء باللوم. فالإنسان النزيه لا يخشى أن يُسأل، لأنه يدرك أنه لم يخُن الثقة، والإنسان الذي يؤمن بالمساءلة لا يهتز حين يُحاسَب، لأنه يعلم أن المحاسبة طريق للنضج والتطور.

وللنزاهة والمساءلة عناصر راسخة تشكّل عمودهما الفقري: الصدق، الشفافية، الاتساق، احترام القوانين، الإخلاص في العمل، وتحمل المسؤولية، هذه العناصر إذا اجتمعت، تشكّل شخصية قوية لا تهزم، وشخصًا جديرًا بالثقة، يحترمه الناس، ويشعر بالسلام الداخلي لأنه لا يعيش في صراع مع نفسه.

ولكل قائد، تعدّ النزاهة والمساءلة حجر الزاوية في قيادته؛ فالقائد الذي لا يتحلى بهما لا يستطيع أن يبني فرقًا قوية، ولا أن ينال الثقة، ولا أن ينشئ بيئة عمل مستقرة. القيادة ليست أوامر، بل قدوة. وليست سلطة، بل أمانة.

حين يتحلى القائد بالنزاهة، يصبح صوته مسموعًا دون أن يرفع نبرة، ويصبح حضوره مؤثرًا لأنه يعكس ثباتًا أخلاقيًا، وحين يمارس المساءلة على نفسه قبل الآخرين، يشعر فريقه بالأمان النفسي ويؤمن بأن العدالة حاضرة، وأن هناك معيارًا ثابتًا للجميع.

أما الموظف، فالنزاهة بالنسبة له هي رأس المال الحقيقي، هي التي تصنع اسمه، وتحدد مستقبله، وتعطي لعمله قيمة تتجاوز الراتب والمكافآت، الموظف النزيه هو من يضيف للمنظمة لا من يستهلكها، ومن يترك أثرًا لا بصمة وقتية، والمسؤولية تجاه المهام والنتائج تجعله عضوًا فعّالاً يُعتمد عليه، ويكون في نظر مؤسسته شخصًا يمكن البناء عليه.

وبالنسبة للطالب، فإن النزاهة ليست مجرد عدم الغش في الامتحانات، بل هي منهج حياة، تُعلّمه أن النجاح الحقيقي ليس في العلامة بل في المعرفة، وليس في التفوق الشكلي بل في النمو الداخلي، المساءلة في حياة الطالب تجعله واعيًا بأن كل جهد يبذله اليوم سيعود عليه غدًا، وأنه شريك في تشكيل مستقبله لا متلقيًا لما يُفرض عليه.

وفي الأسرة، تُصبح النزاهة والمساءلة لغة تربوية تسبق الكلام، حين يرى الأبناء والدًا أو أمًا نزيهين، يتعلمون دون توجيه مباشر، وحين يرون الاعتذار ممارسة طبيعية، يتحملون مسؤولية أخطائهم دون خوف، فالمجتمع الذي تُربّى أجياله على هذه القيم، مجتمع لا يُمكن أن يسقط؛ لأنه يبني ضميرًا جمعيًا يصنع العدالة ويحمي النظام ويمنح أفراده الإحساس بالانتماء والثقة.

وعلى مستوى المجتمع، ترتقي الأمم بالنزاهة قبل أن ترتقي بالتكنولوجيا، تتقدم بالمساءلة قبل أن تتقدم بالثروات، فالمجتمع الذي يقدّر هذه القيم يخلق بيئة تسود فيها الثقة، وتزدهر فيها المبادرات، ويشعر فيها الفرد أن جهده لا يضيع، وأن صوته مسموع، وأن حقوقه محفوظة، فالنزاهة والمساءلة ليستا شعارات وطنية، بل سلوك يومي يبدأ من أصغر التفاصيل وينتهي عند أعظم القرارات.

وفي النهاية، النزاهة والمساءلة يجب أن يكونا أساس كل تعامل وكل علاقة وكل تصرف، لا يجب أن يكونا عبئًا على الإنسان، بل حماية له، تمنحانه الراحة، وتحفظان كرامته، وتجعلاه يمشي في الحياة برأس مرفوع، لأن القلب الذي يعرف الصدق لا يخشى شيئًا، والإنسان الذي يواجه نفسه بشجاعة لا يتعثر مهما اشتدت الطرق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكترونى

كل التعليقات

طلبات الخدمات
تواصل معنا
جميع الحقوق محفوظة لصالح سعادة نيوز© 2025
Powered by Saadaah Enterprises FZ LLE